منذ توليه منصب نائب مدير مطار شرم الشيخ الدولي تقلد في المناصب حتى أصبح الرئيس السابق للشركة المصرية للمطارات، وانتهى به المطاف إلي تقديم استقالته منذ عدة سنوات، ولم يفصح لأحد عن الأسباب التي دفعته لتقديم الاستقالة واعتاد العمل في صمت دون التحدث مع أحد...
اللواء طيار جاد الكريم نصر محمد، أحد الطيارين الأبطال ضمن سرب اللواء محمد حسنى مبارك الرئيس الأسبق وقائد القوات الجوية يروى لنا بطولات استعادة الكرامة وتحرير سيناء من مغتصبيها الإسرائيليين عام 1973، حيث كان اللواء جاد الكريم نصر برتبة ملازم طيار مقاتل في حرب استرداد الكرامة..
ويقول في حواره مع "بوابة الأهرام"...
"التحقنا أنا وزملائي بالكليات العسكرية عقب هزيمة 1967، باعتبارنا كنا نشعر أن قطعةً من وطننا وقلوبنا سُلبت دون وجه حق وعلينا كشباب مصريين استعادتها، علينا أن نثأر لأنفسنا، ولم نكن نسميها معركة استرداد الأرض أو الكرامة بل الثأر وعودة الحقوق لأصحابها".
أشار جاد الكريم إلى أن هزيمة 1967 كانت صعبة للغاية وتعلمت منها القوات المسلحة دروسًا عديدة لذلك كان يتم تدريبنا على أمرين النصر أو الشهادة وبدا ذلك في التدريبات الشاقة التي خضعنا لها وكنا نشعر أن يوم الحسم قادم لا محالة، فكانت التدريبات هي كلمة السر في تفوقنا على العدو الإسرائيلي لافتاً إلى أن التدريبات قبل 67 كانت فردية وعلى ارتفاعات عالية، وبعد عام 67 تغيرت إستراتيجية التدريبات فكانت تدريبات جماعية بأعدادٍ كبيرة من الطيارين حيث كنا نطير على ارتفاعات منخفضة للغاية لتفادي رصد رادارات العدو للمقاتلات المصرية، حتى أننا في بعض الارتفاعات المنخفضة إن أنزلنا العجلات ستلمس الأرض ، لذلك كانت التدريبات تزيد الطيارين مهارة كبيرة في المناورات العسكرية وبالتبعية في دقة رصد وتدمير الأهداف المطلوبة مما كان يشعرنا أن الوقت قد حان.
يتابع اللواء طيار جاد الكريم.. وفي صباح 6 أكتوبر لعام 1973 صدرت لنا التعليمات بالتجهيز الجيد لعبور قناة السويس وخط بارليف لتدمير مواقع العدو في سيناء، ويتم اختيار الطيارين المشاركين في هذه الطلعة الأولى، وكانت الفرحة عارمة في قاعدة القطامية الجوية، ورأينا زملاءنا الذين لم يتم اختيارهم يبكون أمامنا لأنهم لن ينالوا هذا الشرف، لكنهم ظلوا يساعدوننا في تجهيز طائراتنا وتسليحها، وبدأوا كتابة عبارات على الصواريخ والقنابل قبل تزويدها للطائرات، فبعضهم كتب أسماءه، وبعضهم كتب الله أكبر، وبعضهم كتب النصر من عند الله تعالى.
وكانت روح أكتوبر كلمة السر في النصر، فنحن نتصارع من أجل المشاركة وكلنا يعلم أنه قد يموت ولكننا كانت أرواحنا رخيصة أمام قطعة أرضٍ غالية من الوطن وكرامة وطن لابد وأن تعود مهما كلفنا ذلك، فكنا لا نخشى الموت بينما العدو لا يمتلك عقيدة يحارب من أجلها، فنحن ندافع عن حقنا ووطننا وهم يدافعون عن شيء اغتصبوه .
أوضح اللواء طيار مقاتل جاد الكريم كنا نهاجم في سرب مكون من أربعة تشكيلات، كان يسمى الأصابع الأربعة وهو دليل علي الالتحام والترابط، وكل تشكيل عبارة عن أربع طائرات من طراز ميج 17، وكان الهدف تدمير صواريخ الهوك لتحقيق سيطرة جوية في مسرح العمليات العسكرية والسماح لكافة أفرع القوات المسلحة بالدخول قبل تحرك طائرات العدو وفي غضون دقائق كما مرت علينا نجح السرب في تشكيلاته الأربعة والمكون من 16 طائرة من تحقيق أهدافه كاملة في الطلعة الجوية الأولى وعدنا جميعنا سالمين لقاعدة القطامية الجوية نهنئ بعضنا البعض عن نجاح تلك الضربة.
وأثناء الحوار تذكر البطل المقاتل لحظة عبوره وسط القوات الجوية لقناة السويس فقال: كان مقررًا لقوات المشاة والصاعقة أن تعبر القناة بعد عودتنا من الضربة الأولى، فقد كانت الأوامر أن العبور يبدأ بعد رؤيتهم لنا نعبر القناة في طريق العودة ، لكنهم لم يستطيعوا التحكم في أنفسهم فقد بدأوا العبور بعد أن رأونا نعبر القناة في اتجاه سيناء لتنفيذ الضربة وتعالت تكبيراتهم التي هزت قلوبنا واربكت العدو حتى إنه فقد توازنه كما قال الرئيس الراحل محمد أنور السادات في 6 ساعات فقط.
وبعدها توالت العمليات الجوية في عمق سيناء يومي السادس والسابع من أكتوبر دون أدنى رد فعل ملموس من الدفاع الجوي الإسرائيلي الذي أصيب بالشلل التام من جراء عنصر المفاجأة الذي تمتعنا به خلال خوضنا معركة الأخذ بالثأر.
وفي يوم الثامن من أكتوبر أقلع السرب لتنفيذ مهمة جديدة في عمق سيناء وتمت بنجاح وعدنا لقاعدة القطامية الجوية سالمين دون خسائر سواء بشرية أو في المقاتلات، وبدأنا في إعادة تسليح الطائرات مرة أخري استعداداً لصدور تعليمات بمهمة جديدة، وهو ما حدث بالفعل ففي مساء نفس اليوم صدرت لنا تعليمات بتدمير معدات إسرائيلية على عمق 40 كيلومترًا في عمق سيناء، والتي كانت في طريقها لقصف أهداف عسكرية مصرية، وأقلعنا لتنفيذ المهمة وما إن وصلنا للهدف فوجدنا أن القوات الإسرائيلية قد تحركت خشية من اصطيادها، بمعنى أن المهمة انتهت قبل أن تبدأ، وهنا رفضنا جميعاً العودة دون تنفيذ مهمة جديدة، وبدأنا نبحث عن هدف حيوي جديد في عملية تسمى في سلاح الجو بـ “القنص الحر”، وتقدمنا لمسافة 50 كيلومترًا في عمق سيناء لنعثر علي أكبر محطة للتشويش والإعاقة الإسرائيلية كانت موجودة بمنطقة جبل “أم خشيب”، وفور تدميرها انقضت علينا أربع طائرات إسرائيلية من طراز فانتوم.
بدأنا بالاشتباك معهم، وتمكنا ولأول مرة من إسقاط أول طائرة فانتوم من سلاح الجو الإسرائيلي، وكان هذا حدثًا كبيرًا وله أثره في رفع الروح المعنوية للمقاتلين المصريين، والعكس بين صفوف العدو فقد تهاوت أسطورة الفانتوم أمام قدرات الطيارين المصريين، وأثناء الاشتباك أصابتني طائرة وبدأت طائرتي تشتعل نيرانها، فانطلقت بمقعدي خارج الطائرة على ارتفاع 10 أمتار فوق سطح الأرض، لأغيب عن الوعي لأكثر من ساعتين تقريباً، وفور عودتي للحياة مجددًا لم أستطع تمييز حالتي هل استشهدت أم مازلت على قيد الحياة.
أضاف البطل المقاتل "أنني بدأت في تفحص جسدي والإصابات التي ألمت بي، لأجد كسراً في الذراع الأيسر، وشظية بالذراع الأيمن، وجزعاً بالقدم، وشظايا متفرقة بأنحاء جسدي ورقبتي وكانت الدماء تسيل بمختلف أنحاء جسدي ووجهي، ثم بدأت في دراسة المسافة التي تفصلني عن القوات المصرية، فاكتشفت أنني علي عمق 50 كيلومتراً خلف خطوط العدو الإسرائيلي، وكل ما أملك من وسائل الإعاشة كيس مياه يحتوي علي نصف لتر أو يزيد بقليل، وبدون سلاح، فبدأت في السير عكس اتجاه الشمس في محاولة للوصول إلي القوات المسلحة المصرية، واتخذت الطرق الوعرة غير الممهدة وسط الزراعات الربانية بالجبال لتجنب ملاقاة قوات العدو، ومع اختفاء الشمس لجأت إلي أحد التلال الوعرة في انتظار ضوء النهار التالي حتى لا أفقد خط سيري في الظلام، وحاولت فتح كيس المياه لأرتوي، إلا أنني فشلت في البداية بسبب إصابات ذراعي، وبأسناني تمكنت من فتحه لكن بعد أن اختلط الماء بدماء فمي ووجهي، لكنني شربته بالكامل من شدة عطشي ومن هنا أيقنت قول الله تعالي الذي قال فيما معناه وجعلنا من الماء كل شيء حي.
ومع سطوع أول ضوء للنهار التالي 9 أكتوبر، بدأت في التحرك مرة أخري وكلما اقتربت أكثر من خط النار بين القوات الإسرائيلية والمصرية كلما شعرت بالارتياح، فذلك يعني أنني أسير في الاتجاه الصحيح، وكلما واجهت قوات للعدو أختفى بين الأعشاب الشائكة الخضراء التي تشبه في لونها لون ملابسي العسكرية الخضراء لحين تحرك قوات العدو من مكانها لاستكمل خط سيري في اتجاه القوات المصرية، ومع بداية نهار 10 أكتوبر، وصلت إلى القوات المصرية التي رفع جنودها السلاح في وجهي مُعتقدين أنني أحد جنود العدو الإسرائيلي الذي سقط أسيرًا، إلا أنني بدأت في الصياح مصري مصري، فصرخ الضباط في وجه الجنود قف "محدش يضرب محدش يضرب"، وحاصروني متسائلين "أنت مين"، فأجبت وأنا أسقط أمامهم من شدة الألم "أنا طيار مصري"، فسألوا و"نعرف منين إنك مصري"، فأجبت أنا طيار من سرب قاعدة القطامية الجوية اللي خرج من يومين، فصاح أحدهم "أنت كنت في السرب اللي ضرب محطة التشويش في جبل أم خشيب"، فأجبت "أيوه"، فصاح في الجنود "شيلوا البطل .. اسعفوه"، وحملوني لإسعافي، وبعد الكشف الأول أمر الطبيب بضرورة نقلي إلي المستشفي لخطورة حالتي، خاصة أنني فقدت كثيرا من الدماء خلال رحلة عودتي سيرًا على الأقدام، فبدأوا في البحث عن سيارة لنقلي، وعثروا علي سيارة ذخيرة إلا أن قائدها رفض نقلي لضرورة تزويد جنودنا علي الجبهة بالذخيرة، ومع انتظاري لسيارة، تبرع جميع الضباط والجنود وحتى القيادات بوجباتهم لإطعامي دون ان يفكروا في أنفسهم.
وتزامن مع ذلك وصول المشير أحمد بدوي عميد وقائد الفرقة السابعة ميكانيكيا مشاة وقتها علي متن دبابته، وسأل "فيه إيه" ، فأجابه أحد الضباط "ده الطيار اللي بلغوا باستشهاده بعد ضرب محطة التشويش"، فسأل المشير وما نقلتهوش ليه علي المستشفي؟” فأجاب “العربية الوحيدة اللي كانت موجودة كانت بتنقل ذخيرة”، فصرخ قائلا: “هو أهم من الذخيرة ، أنتم عارفين يعني أيه طيار؟ يعني من غير الطيران ما كناش نقدر نتحرك خطوة جوه سينا”، ثم أمر بحملي علي متن دبابته لنقلي بنفسه إلى المعبر، وطوال الطريق أشرف علي إطعامي مرددا ” حمدًا لله ع السلامة يا بطل “، وفور عبوري إلي الضفة الغربية قابلت الفريق ”سعد الدين الشاذلي”، الذي ربت علي كتفي وهنأني على عودتي وتدمير محطة التشويش الإسرائيلية، وقال لي مطمئنا “ما تقلقش ها تبقي كويس”، فقلت “أنا عاوز أتعالج بسرعة علشان أرجع للحرب تاني يا فندم”، فأجاب مبتسما “ما تقلقش”.
ويختتم اللواء جاد الكريم نصر بطولته قائلا: "فور دخول المستشفي علمت أن القوات الجوية سجلتني شهيدًا بعد تأكيد زملائي في السرب المشاركين لي في تدمير محطة التشويش استشهادي بعد رؤيتهم لطائرتي تشتعل فور إصابة الطائرة الفانتوم الإسرائيلية لها، كما علمت أيضا أنه عند إبلاغ اللواء "محمد حسني مبارك"، قائد القوات الجوية حينها، بنتائج الطلعات الجوية بالقاعدة، سأل قادتي “شهيد ولا مفقود”، فأجابوه “شهيد يا فندم”، فكرر السؤال “زملاؤه اللي طاروا معاه بيقولوا شهيد ولا مفقود؟”، فأجابوه “شهيد يا فندم”، إلا أن إرادة الله كانت أقوي من تكنولوجيا طائرات الفانتوم، وأسرع من اشتعال طائرتي، فبعد أن أسقطتني طائرات الفانتوم الإسرائيلية أنقذتني العناية الإلهية.
ولم تكن اشتعال طائرته الميج 17، بل كانت في المستشفى حينما أخبرني الطبيب التشيكي المعالج لي، والذي سألني خلال فترة العلاج “إنت عاوز تطير تاني؟” فسألته “ليه .. هو أنا مش ها طير تاني؟”، فأجاب ” للأسف “، فدمعت عيناي لأول مرة منذ إعلان الحرب، فأضاف “بس فيه أمل .. لا تقلق”، وعلي مدار عام كامل، تلقيت خلاله كثيراً من الجلسات العلاجية المكثفة حتى أتمكن من فرد ذراعي الأيسر مجددًا، وبالفعل عُدت إلي السماء محلقًا من جديد، وتدرجت في الرتب العسكرية، حتى وصلت إلي رتبة لواء وتقلدت في المناصب وكانت آخرها رئيس الشركة المصرية للمطارات بوزارة الطيران المدنى.